قدم اليوم الأربعاء فيلم « الذراري الحمر » للطفي عاشور في عرض خاص بالصحفيين وسيقدم في عرضه التونسي الأول مساء اليوم بقاعة الأوبرا بالعاصمة وذلك في إطار فعاليات الدورة 35 من أيام قرطاج السينمائية.
هذا الفيلم الذي ينافس ضمن المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة هو عمل مستوحى من القصة الواقعية لمبروك السلطاني الذي راح ضحية عملية إرهابية هزت الرأي العام الوطني التونسي والعالمي حيث قام إرهابيون بذبح هذا الراعي « الطفل » أمام أنظار ابن عمه وتوثيق لحظات ما قبل الذبح لبث الرعب والخوف في قلوب التونسيين.
فيلم « الذراري الحمر » للطفي عاشور (100 دق) من إنتاج مشترك تونسي وفرنسي وبلجيكي، يروي القصة بأسلوب درامي من خلال شخصيتي « أشرف » (علي الهلالي) و »نزار » (ياسين سمعوني).
وهو عمل كتب نصه كل من لطفي عاشور ودرية عاشور وناتشا دو بونشارة وسيلفان كاتونوا، وشارك فيه مجموعة من الممثلين الكبار على غرار لطيفة القفصي وصالحة النصراوي والجمعي العماري ووداد الدبابي ويونس نوار ومنير خزري ونور الدين همامي وآية بوترعة وريان قروي وسناء بن محمد جابالله ونورة بالعيد.
يمزج العمل في طرحه بين أسلوبي الترميز والمباشراتية. ويبدأ استخدام الترميز من المشهد التمهيدي إذ يبرز صبيان يتوجهان لرعي الأغنام في سفوح جبل المغيلة من ولاية سيدي بوزيد هناك حيث يعاني المتساكنون من صعوبة الحياة على مختلف الأصعدة.
تضمن المشهد التمهيدي تكرارا لمصطلح « عمياء » والمرء حين يصيبه « العمى » يصبح غير قادر على مشاهدة ما يحدث حوله وبذلك قد يتوجه إلى الخطر دون أن يدرك ذلك، وهو ما عاشه الطفلان حين تجاوزا المنطقة العسكرية المحظورة والمعزولة بأسلاك شائكة وتوجها إلى أعلى الجبل.
اختار لطفي عاشور أن يركز في هذا العمل على معاناة الطفل الذي كان شاهدا على عملية الذبح وأُجبر على نقل رأس ابن عمه الذي قطعه الإرهابيون، وقد نجح الممثل الذي أدى دور الطفل في نقل مشاعر الخوف والرعب وتأثير ما بعد الصدمة من خلال تعابير وجهه ونظراته وحركات جسده التي راوحت بين الوقوف « المتجمد » والحركة السريعة غير الثابتة والركض والقفز والسقوط وإعادة الوقوف سريعا.
من خلال جريمة ذبح الطفل وتأثيرها على المحيط، أكد مخرج العمل أن الإرهاب جريمة لا مبرر لها ترتكب في حق أشخاص أبرياء ويقوم بها أشخاص قد لانعرفهم ولكن نسمع ونرى أفعالهم وتأثيراتها على الأفراد والمجموعات، وهو ما أشار إليه من خلال سماع صوت القتلة دون تصوير وجوههم.
راوح تصوير الفيلم بين اللقطات القريبة والبعيدة، أي بين التركيز على ملامح الأفراد وتفاعلاتهم الجسدية والنفسية من جهة، وآثار الإرهاب على عائلة الضحية، وقسوة الحياة على متساكني تلك المنطقة من جهة أخرى وذلك من خلال تصوير المناظر الطبيعية المتسمة بالجفاف وانعدام الاخضرار وانتشار السفوح الصخرية الخطرة. وعمد المخرج بتوظيفه لمشاهد تلبد السماء بالغيوم وزمجرة الرعد ووميض البرق، للدلالة على بركان الغضب في نفوس أهالي المغيلة.
أبرز الفيلم التأثيرات النفسية العميقة للعنف المادي والنفسي على الطفل بصفته ضحية للعنف وشاهدا عليه، وانعكاس ذلك على سلوكاته وذلك من خلال نزوع الطفل « أشرف » إلى إعادة إنتاج العنف على أترابه أثناء اللعب، بالإضافة إلى ملامح تأثيرات ما بعد الصدمة التي برزت في لحظات الصمت العميق للطفل البطل وحواراته المتخيلة مع ابن عمه وهو ما يجسد رفضه الداخلي للجريمة وصعوبة التخلص من تبعاتها.
ومن الآثار النفسية الأخرى التي برزت أيضا، فعل « التناسي » بصفته آلية من آليات الدفاع النفسي لدى الفرد.
كما تعمد مخرج العمل تسليط الضوء على الكدمات على جسد الطفل وخاصة على مستوى رقبته، في إشارة إلى أنه قد يكون هو أيضا ضحية « ذبح ». كما لم يعبر الطفل عن أي شعور بالألم الجسدي في مقابل معاناته النفسية العميقة وهو ما يسلط الضوء على عمق العنف النفسي لدرجة أن قد يُلغي إحساس الفرد بآلام جسده.
عاش بطل العمل كامل أطوار الفيلم مع شعور داخلي بالذنب جسدته حواراته مع صديقته « رحمة » وعدم رغبته في البداية في الوصول إلى مكان الجثة مقطوعة الرأس، وزاد تعميق هذا الإحساس الاتهامات الضمنية التي تلقاها من قبل أفراد العائلة الذين بدوا في بعض المشاهد وكأنهم يعتبرونه مسؤولا إلى حد ما عما حصل.
من الرمزيات الأخرى التي اشتغل عليها مخرج العمل من خلال مشهد ذهاب الفتاة إلى المدرسة وحفظ الطفل « أشرف » لمحتوى الدرس، رغم انقطاعه عن الدراسة، بما يحيل على المكان الطبيعي للطفل وهو قاعة الدرس خاصة وأن انقطاعه عن الدراسة ليس بسبب تكاسله أو رفضه للتعليم بل دفعته ظروف الحياة القاسية، وهو ما عبر عنه الطفل خلال إلقائه لدرس « علوم الحياة والأرض » حيث تحدث عن الحيوانات والمناطق التي تستقر فيها حسب الفصول وإشارته إلى نزوع هذه الحيوانات إلى الهجرة أو السبات بسبب الظروف المعيشية.
تخللت الفيلم مجموعة من الحوارات التي تمرر رسائل هامة، ففي حوار أشرف مع ابن عمه الضحية، تطرق الثنائي إلى جملة من المسائل المرتبطة بقسوة العيش في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تفاقمت بسبب الإرهاب. واختار المخرج ألا تشرق شمس « نزار » إلا في حوار الوداع بينه وبين أشرف الذي رغم حداثة سنه كان على وعي بأن « الموت يوجع الأحياء أكثر » خاصة وأنه « الحي » طفل شهد عملية قتل ابن عمه البريء بأبشع الطرق.
رغم كل الحزن والوجع الذي نقله الفيلم إلا أنه نقل أيضا حب متساكني المنطقة للحياة من خلال مشهد « حفل الأفراح » الذي أبرز أحاسيس الفرح والبهجة وإقبالهم على الغناء والرقص، بالإضافة إلى تضمن العمل إشارة إلى المستقبل من خلال الرضيع الذي يبرز في أكثر من مشهد، رغم ضبابية هذا المستقبل من خلال اعتماد اللون الرمادي الذي طغى على مختلف أطوار الفيلم.
لم يُغفل صاحب العمل الاشارة إلى غياب دور السلط التي من المفترض أن تحمي هؤلاء الأشخاص من خطر الإرهاب في حين تخلت عنهم ولم تُعرهم اهتماما إلا بعد انتشار فيديو اللحظات الأخيرة « للراعي الطفل » الذي نشره الارهابيون لبث الرعب في صفوف المواطنين.
من المصطلحات التي تداول استخدامها في العمل لفظ « الصباب » الذي تكرر في الفيلم ليعكس نظرة دونية لدى الأفراد تُجاه المبلغين عن الجرائم حتى وان كان هذا التبليغ يخدم المصلحة العامة وهو ما يُعبر عن القطيعة التي بين المواطنين والأمن وهو ما يعود حسب أطوار الفيلم إلى غياب الأمن في سياقات يحتاجه فيها الأفراد. فقد تخلى الأمن عن عائلة « نزار » فكان سلاحهم الوحيد في مواجهة الارهاب « كلابهم الوفية » والهراوات وهم الرعاة الذين دائما ما يعتمدون على العصا والكلاب في رعي أغنامهم.
ويلاحظ مشاهذ العمل أن كل مشهد وكل حركة ولون في الفيلم لها رمزيتها حتى أن ملابس الشخصيات تعكس وضعهم الاجتماعي وحاجتهم للعمل رغم ما يمكن أن يتعرضوا له من مخاطر وأهوال.
وعنوان العمل المتكون من مصطلحين « الذراري » وهو مصطلح شعبي يرمز للأطفال والحمر هو رمز للشجاعة من منطلق أن التونسيين يصفون به الشخص الشجاع والمقدام.
ولم يكن « نزار » في الفيلم سوى إشارة إلى الراعي مبروك السلطاني الذي اغتاله الإرهابيون في جبل المغيلة وقطعوا رأسه سنة 2015 ثم تم قتل شقيقه سنة 2017 بنفس الطريقة الوحشية، ولم يغفل لطفي عاشور عن إهداء هذا العمل إلى روحيهما، وروح والدتهما التي توفيت سنة 2020 وقد جسدت دورها باقتدار كبير الفنانة المتميزة لطيفة القفصي.
وللإشارة فإن فيلم « الذراري الحمر » للطفي عاشور حاز على عديد الجوائز الدولية آخرها جائزة اليسر الذهبية لأفضل فيلم طويل وجائزة أفضل مخرج ضمن مهرجان البحر الأحمر السينمائي وجائزة أفضل فيلم في مهرجان الفيلم الفرنكوفوني الدولي بنامور وقدم في عرضه العالمي الأول في جويلية في مهرجان لوكارنو. كما تحصل بطل العمل الطفل علي الهلالي على تنويه في مهرجان سينما البحر الأبيض المتوسط ببروكسيل.