تتدلّى على الركح شرنقة تتساقط منها مجموعة من العرائس، ثم تخرج من الشرنقة امرأة، فتبدأ خطواتها نحو عالم الحياة. تبدو عملية الولادة عسيرة. مشهد يعلن عن قيام ثورة وولادة وطن جديد بأحداث جديدة.
كان ذلك المشهد الافتتاحي للمسرحية الجديدة « قمرة دم » (Blood Moon)، وهي عمل من إخراج معز مرابط وتأليف بسمة العشي وإنتاج مسرح الحمراء. وأدى الثنائي بسمة العشي ومريم الصياح أدوار هذه المسرحية التي قُدّمت في عرضها الأول مساء الجمعة بمسرح الحمراء بالعاصمة، بحضور ثلة من من المسرحيين والإعلاميين.
تحكي أحداث مسرحية « قمرة دم » قصة امرأتيْن هما علياء وزينب تبحثان عن سرّ اغتيال ملهمتيْهما في إحدى الساحات العامة، وهي شاعرة اسمها هادية. فتقتفيان آثار بعضيْهما البعض، بين الرغبة والقنوط، البقاء والهروب، محاصرتين بهوس ولادة جديدة.
مسرحية « قمرة دم » يتألف عنوانها من مصطلحيْن متناقضيْن: يفيد المصطلح الأول (القمر) معاني الجمال والحب والنور والحياة وانقشاع الظلمات، أما المصطلح الثاني (الدم) فيرمز إلى الجريمة والعنف والموت. وللعنوان أيضا دلالة علمية تحيل على معنى الخسوف الكلّي للقمر، بحيث يُصبح أحمر بلون الدم.
وفي أحداث المسرحية، عبّر العنوان عن مجموعة من التناقضات للواقع المعيش للإنسان: فمعاني الجمال والحب والفرح في الظاهر، أخفت وراءها أوجاعا وآلاما في الباطن، وما اختيار « قمرة دم » عنوانا لهذا العمل إلا لكونه يمثّل صورة مجهرية تقريبيّة عن الثورة التونسية وعن دماء الشهداء التي سالت في سبيل التحرّر من الديكتاتورية، وكذلك عن شهداء ما بعد 14 جانفي 2011 من القوات الحاملة للسلاح الذين أفدوا الوطن بدمائهم دفاعا عن قيم الحرية والديمقراطية، وإرساء ثقافة التنوع ضدّ ثقافة الموت التي تتبناها التيارات الدينية التكفيرية.
ارتكز العمل على ثنائيات « الألم والأمل » و »النور والظلمة » و »الحياة والموت »، وهذه الثنائيات المتضادّة تجلّت في أساليب عديدة منها النص والسينوغرافيا ولعب الممثلتين على الركح وملابس الشخصيتيْن، وكذلك في الإضاءة والسخرية السوداء وغيرها.
ففي ما يتعلّق بالنص، اشتقت الكاتبة والممثلة بسمة العشي مفردات النص من معجم الطبيعة ومن معجم العنف ومعجم الحب، فعبّرت من خلال هذه المصطلحات عن الخيبات التي عاشتها تونس خلال المرحلة الانتقالية، لكن رغم ذلك وردت المفردات حبلى بمعاني الحب والأمل في زوال الخسوف وانبعاث نور القمر من جديد وانقشاع الظلام.
والملفت لانتباه الجمهور في هذا العمل هو الإيقاع العام للعرض الذي بدا متمرّدا على ماهو كلاسيكي، فمشاعر الألم والغضب والصراع والعنف والحيرة… جسّدتها الممثلتان على الركح بإحساس باطني عميق، فكان الأداء أكثر صدقا وغابت مظاهر القسوة والعنف الخارجي على لعب الممثلتين على الركح.
ومشاعر الحيرة والضياع التي عاشتها الممثلتان بسمة العشي ومريم الصياح، ترجمها أيضا الاختيار الجمالي لهذه الكتابة الركحية المتمثّل في العناصر السينوغرافية المكوّنة للعرض من تقنيات فيديو وإضاءة، وهو ما أضفى على العرض جمالية بصرية من حيث الشكل، وعمقا من حيث المحتوى.
وعوّل المخرج معز مرابط على تقنية الإضاءة لخدمة الثنائية القائمة على الألم والأمل والظلمة والنور والموت والحياة، فكثّف من الإنارة الزرقاء التي سلّطها على مختلف أرجاء الركح، ليُبرز بذلك حالة الجمود والسكون والانغلاق والسجن، لكنه لم ينسَ، في المقابل، تشكيل نافذة بتقنية الإنارة وسط هذه العتمة الزرقاء ليُعطي أملا وتفاؤلا بإمكانية الخلاص والنجاة من كابوس الظلمة والسجن، والحدّ من الأزمات والخيبات التي عرفتها تونس بعد الثورة.
ولم تخلُ مسرحية « قمرة دم » من المواقف الساخرة، وهي سخرية سوداء تحمل في مضمونها مفارقة بين المؤمل والحاصل: فالمؤمل أن تحقّق الثورة جانبا كبيرا من أهدافها على الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، لكنّ الحاصل هو مزيد تفشي ظواهر العنف والفوضى، فعمّ الفساد والفقر في المجتمع وانتشرت « الغوغائية » كما ورد في نصّ المسرحية.
وأقحم معز مرابط في اللعب الدرامي للشخصيتيْن مجموعة من العرائس، أحكم توظيفها في التعبير عن دلالتيْن متباينتيْن، في إطار ثنائية التناقضات التي قامت عليها المسرحية. وبدأت الدلالة الأولى في التعبير عن المواليد الجدد أو الرضع، وذلك في إشارة إلى معنى الولادة والحياة، ثمّ وُضعت هذه العرائس في أكفان فعبّرت بذلك عن معنى العدم والموت. ولذلك كان المقصد من توظيفها التعبير عن المسيرة الحياتية للإنسان بأحلامه الضائعة أو الأشياء الجميلة التي تختفي فجأة دون أن تكتمل، ورغم ذلك تستمرّ المواجهة ويستمرّ التشبث بالحياة ويتواصل، من جديد، الحلم بواقع أفضل.
العمل الفني « قمرة دم »، مسرحية تجريبية يمكن وصفها بـ « الانفجار » الركحي الهادئ، كُتبت بأسلوب فني بعيدا عمّا هو كلاسيكي، خصائصها الفنية مميّزة ومحتواها عميق يترك مجالا واسعا للتأويل والتفكير. وقد أثار من خلالها المخرج معز مرابط مجموعة من القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والأمنية، بالإضافة إلى القضايا الكونية الكبرى كالحرية والعدالة.
تنتهي المسرحية بالحلم كأحد العناصر للتخلّص من مأساة الواقع، حتى وإن كان الحلم باختيار الإنسان لطريقة موته، كما فعلت إحدى الشخصيتين، لكن الأمل في غدٍ مشرق يظل قائما رغم الخيبات.