سيكون الفيلم الروائي الطويل « عصيان » للمخرج الجيلاني السعدي، متاحا في قاعات السينما التونسية بداية من يوم 9 فيفري الحالي، بعد أن تابعه جمهور الفن السابع للمرّة الأولى ضمن الدورة 32 لأيام قرطاج السينمائية (2021)، وقد تحصل على جائزة التانيت البرونزي.
وتدور أحداث هذا الشريط في ليلة تعرف فيها تونس عمليات احتجاج واسعة النطاق حيث أصبحت الشوارع ساحة للمواجهات بين المتظاهرين والشرطة، وفي الأثناء تلتقي ثلاث شخصيات برجل شيخ تخلّى عنه ابناه، بعد أن هرب الجميع من جحيم العنف الذي يلاحقهم، فيقرّرون الاعتناء بهذا العجوز المقعد « بابا الحاج ».
يستهلّ الفيلم بمشاهد لمواجهات حامية بين محتجين وعناصر من الشرطة، أصوات القنابل الغازية لا تنقطع وهتافات الجماهير تتعالى. وفي الأثناء تأخذ عدسة الكاميرا المتفرّج إلى مكان جديد يظهر فيه شابان يلقيان بوالدهما المقعد والمسن على قارعة الطريق بعد أن جرّداه من أمواله، وتركاه في مع فانوس ينير به عتمة الطريق ويكون وسيلة ليجلب أنظار المارة علّهم ينقولونه إلى دار المسنين، وبالفعل حلّت سيارة الشرطة على عين المكان وقرّرت نقله إلى مركز الأمن، قبل أن تتخلّى عنه في وسط الطريق بعد أن عمّت رائحة برازه أرجاء السيارة.
وفي مشاهد أخرى منفصلة، يسلّط الفيلم الضوء على ثلاث شخصيات مختلفة هي شخصية مسمار الملاكو الذي يخسر أمام خصمه ويهرب من عنف المنحرفين، و »بيّة » التي أغضبت زوجها فطردها من المنزل و »ولد جنات » الذي جرّدته النسوة من ملابسه بعد إصراره على رؤية ابنته ومنعته طليقته. وهذه الشخصيات التقت بجوار الشيخ المقعد وبدأت رحلتها نحو العودة إلى المدينة التي تجلّت لهم في صورة المدينة الفاضلة التي ينشدونها، مدينة تتلألأ أنوارها من بعيد لكن يبدو ألاّ مجال للوصول إليها.
لقد ارتكزت أحداث الفيلم على الكثير من المواقف والمشاهد الهزلية الساخرة التي كانت تميّز الشخصيات في علاقة بالشيخ المقعد، فهذان رجلان من الأمن بدل الاهتمام بالشيخ يتركانه في حاله، وهما يمثّلان صورة قوية للدولة التي تترك مواطنيها ولا تلتزم بواجباتها تجاههم، وهؤلاء شبّان يشاركون في اعتصام مقابل شرب كميات من قوارير الخمر بدل القيام بذلك من منطلق الإيمان بمطالبهم.
ومع كلّ مشهد يبرز رحلة الشخصيات نحو المدينة، لا تهدأ أصوات المحتجين ولا أصوات القنابل الغازية. وقد أضاف إليها المخرج « خطابات جوفاء » لرموز عليا في السلطة السياسية، وكأنه أراد إبراز أن الخطب السياسية غير عابئة بمطالب المحتجين، وأن السلطة السياسية هي المسؤول الأول عن تأجيج الأوضاع الأمنية والاجتماعية، ليكون ضحيتها مواجهات دامية بين أبناء الشعب المفقرين من الأمنيين والمدنيين.
يعمل المخرج في سخريته هذه على المبالغة في تضخيم المواقف، وتحميلها ما يتجاوز طاقتها حتى تكون أكثر وضوحا، لجلب أنظار المتفرّج إلى عيوب المجتمع التونسي، ويجسد ذلك بأسلوب مباشر لا إيحاء فيه، ولا تلميح تماما كما يفعل فنان الكاريكاتور. لكن السعدي يوظّف هذا الأسلوب على نحو خاص، فلا يضمنه هزلا، ولا يجعله مضحكا، وإنما يشيع منه في النّفس قتامة، ويزرع فيها حزنا عميقا.
لقد بالغ الجيلاني السعدي في توظيف المواقف الساخرة في هذا العمل، والمواقف الساخرة أراد بها إبراز هول معاناة التونسيين على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، فالعنف استشرى في المجتمع بشكل كبير والفساد عمّ جميع القطاعات والهوّة الطبقية زادت عمقا والدولة أصبحت شبه منهارة وشبه عاجزة عن الخروج من أزمتها.
ولذلك كانت نهاية الفيلم تراجيدية: فالطريق نحو المدينة الفاضلة التي ينشدها المجتمع، كان الوصول إليها منعدما وحال دون ذلك طوفان عارم أغرق الجميع.
وتجدر الإشارة إلى أن الجيلاني السعدي سبق له إخراج عدد من الأفلام هي « خرمة » (2002) الذي يمثل فيلمه الروائي الطويل الأوّل، تلاه فيلم عرس الذيب (2006) الذي فاز بجائزة لجنة تحكيم أيام قرطاج السينمائية 2006. وفي سنة 2012، بدأ ثلاثية « بدون1″ بفيلم قصير، تبعه « بدون 2″ (2014) و »بدون 3″ (2018). ويعدّ « عصيان » الفيلم الطويل الخامس في رصيده.